فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وَالسَّوْأة: مَا تَسُوء رؤيتُه، وَهِي هنا تغيّر رائحة القتيل وتقطّع جسمه. اهـ.

.قال الفخر:

لا شك أن قوله: {يا ويلتى} كلمة تحسر وتلهف، وفي الآية احتمالان: الأول: أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، فلما تعلم ذلك من الغراب علم أن الغراب أكثر علمًا منه وعلم أنه إنما أقدم على قتل أخيه بسبب جهله وقلة معرفته، فندم وتلهف وتحسر على فعله.
الثاني: أنه كان عالمًا بكيفية دفنه، فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافًا به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه وقال: إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قتله أخفاه تحت الأرض، أفأكون أقل شفقه من هذا الغراب، وقيل: إن الغراب جاء وكان يحثي التراب على المقتول، فلما رأى أن الله أكرمه حال حياته بقبول قربانه.
وأكرمه بعد مماته بأن بعث هذا الغراب ليدفنه تحت الأرض علم أنه عظيم الدرجة عند الله فتلهف على فعله، وعلم أنه لا قدرة له على التقرب إلى أخيه إلا بأن يدفنه في الأرض، فلا جرم قال: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وكلمة {يَا ويلتى} من صيّغ الاستغاثة المستعملة في التعجّب، وأصله يا لَوَيْلَتِي، فعوّضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم: يا عَجَبًا، ويجوز أن يجعل الألف عوضًا عن ياء المتكلم، وهي لغة، ويكون النّداء مجازًا بتنزيل الويلة منزلة ما يُنَادَى، كقوله: {يَا حسرتى على ما فرّطتُ في جنب الله} [الزمر: 56].
والاستفهام في {أعجزت} إنكاري.
وهذا المشهد العظيم هو مشهد أوّل حضارة في البشر، وهي من قبيل طلب سَتر المشاهد المكروهة.
وهو أيضًا مشهد أوّللِ علممٍ اكتسبه البشر بالتّقليد وبالتَّجربة، وهو أيضًا مشهد أوّل مظاهر تَلقّي البشر معارفه من عوالم أضعفَ منه كما تَشَبَّه النَّاس بالحيوان في الزينة، فلبسوا الجُلُود الحسنة الملوّنة وتكلّلوا بالريش المُلوّن وبالزهور والحجارة الكريمة، فكم في هذه الآية من عبرة للتَّاريخ والدّين والخُلُق.
{فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين}.
القول فيه كالقول في {فأصبح من الخاسرين} [المائدة: 30].
ومعنى {من النادمين} أصبح نادمًا أشدّ ندامة، لأنّ {من النادمين} أدلّ على تمكّن الندامة من نفسه، من أن يقال «نادمًا».
كما تقدّم عند قوله تعالى: {وكان من الكافرين} [البقرة: 34] وقوله: {فتكونا من الظالمين} في سورة البقرة (35).
والندم أسف الفاعل على فعل صدر منه؛ لم يتفطّن لما فيه عليه من مضرّة قال تعالى: {أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6]، أي ندم على ما اقترف من قتل أخيه إذْ رأى الغراب يحتفل بإكرام أخيه الميّت ورأى نفسه يجترىء على قتل أخيه، وما إسراعه إلى تقليد الغراب في دفن أخيه إلاّ مبدأ النّدامة وحُبِّ الكرامة لأخيه.
ويحتمل أن هذا النّدم لم يكن ناشئًا عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة، فلذلك لم ينفعه.
فجاء في الصّحيح «ما مِن نفس تُقْتَل ظُلمًا إلاّ كان على ابننِ آدم الأوّل كِفْل من دمها ذلك لأنَّه أوّل من سَنّ القتل» ويحتمل أن يكون دليلًا لمن قالوا: إنّ القاتل لا تقبل توبته وهو مروي عن ابن عبّاس، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها} الآية من سورة النّساء (93). اهـ.

.قال الفخر:

لفظ الندم وضع للزوم، ومنه سمي النديم نديمًا لأنه يلازم المجلس.
وفيه سؤال: وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الندم توبة» فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم لم تقبل توبته؟
أجابوا عنه من وجوه:
أحدها: أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين على حمله على ظهره سنة، والثاني: أنه صار من النادمين على قتل أخيه، لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبوه وإخوته، فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية، والثالث: أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافًا به بعد قتله، فلما رأى أن الغراب لما قتل الغراب دفنه ندم على قساوة قلبه وقال: هذا أخي وشقيقي ولحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي، فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على الغراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة فكان ندمه لهذه الأسباب، لا لأجل الخوف من الله تعالى فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم. اهـ.

.قال الجصاص:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: «لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ بِهِ حَتَّى رَأَى غُرَابًا جَاءَ يَدْفِنُ غُرَابًا مَيِّتًا» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُمَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ عَرَفَ الدَّفْنَ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي سُنَّةِ دَفْنِ الْمَوْتَى؛ وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}.
وَقِيلَ فِي مَعْنَى: {سَوْأَةَ أَخِيهِ} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جِيفَةُ أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ حَتَّى يُنْتِنَ لَقِيلَ لِجِيفَتِهِ سَوْأَةٌ.
وَالثَّانِي عَوْرَةُ أَخِيهِ؛ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِاحْتِمَالِهِمَا.
وَأَصْلُ السَّوْأَةِ التَّكَرُّهُ، وَمِنْهُ: سَاءَهُ يَسُوءُهُ سَوْءًا؛ إذَا أَتَاهُ بِمَا يَتَكَرَّهُهُ وَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قِصَّتَهُ لِنَعْتَبِرَ بِهَا وَنَتَجَنَّبَ قُبْحَ مَا فَعَلَهُ الْقَاتِلُ مِنْهُمَا.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ لَكُمْ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا فَخُذُوا مِنْ خَيِّرِهِمَا وَدَعُوا شَرَّهُمَا».
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ} قِيلَ إنَّهُ نَدِمَ عَلَى الْقَتْلِ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ وَخَوْفِ عِقَابِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ نَدَمُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا فَعَلَ وَنَالَهُ ضَرَرٌ بِسَبَبِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَلَوْ نَدِمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَقَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَغَفَرَ ذَنْبَهُ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا}: اُخْتُلِفَ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ وَلَدُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَهُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرُ مِنْ النَّاسِ، جَرَى مِنْ أَمْرِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ قَتِيلٍ يُقْتَلُ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا}: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَابِيلَ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَفْعَلُ بِهَابِيلَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْغُرَابَيْنِ، فَتَنَازَعَا فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْغُرَابَ إنَّمَا بُعِثَ لِيُرِيَ ابْنَ آدَمَ كَيْفِيَّةَ الْمُوَارَاةِ لِهَابِيلَ خَاصَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {سَوْأَةَ أَخِيهِ}: قِيلَ: هِيَ الْعَوْرَةُ.
وَقِيلَ: لَمَّا أَنْتَنَ صَارَ كُلُّهُ عَوْرَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ سَوْأَةً لِأَنَّهَا تَسُوءُ النَّاظِرَ إلَيْهَا عَادَةً.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَفْنُ الْمَيِّتِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِسَتْرِهِ.
الثَّانِي: لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْأَحْيَاءَ بِجِيفَتِهِ.
وَقِيلَ: إنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ الْغُرَابَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَا غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبَحَثَ الْأَرْضَ عَلَى سَوْأَةِ أَخِيهِ حَتَّى عَرَفَ كَيْفَ يَدْفِنُهُ.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ حَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ سَنَةً يَدُورُ بِهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ، وَدَفَنَ فَتَعَلَّمَ، وَعَمِلَ مِثْلَ مَا رَأَى، وَقَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}.
وَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً بَاقِيَةً فِي الْخَلْقِ، وَفَرْضًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى الْكِفَايَةِ، مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَرْضُهُ؛ وَأَخَصُّ الْخَلْقِ بِهِ الْأَقْرَبُونَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِنْ الْجِيرَةِ، ثُمَّ سَائِرُ النَّاسِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَهُوَ حَقٌّ فِي الْكَافِرِ أَيْضًا، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رَوَى نَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ «عَلِيٍّ قَالَ: قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ، فَمَنْ يُوَارِيهِ؟ قَالَ: اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاك، وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي.
فَوَارَيْته، ثُمَّ جِئْت، فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ وَدَعَا لِي»
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ}: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ؛ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ}: وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْأَحْكَامِ هَاهُنَا لِأَنَّهَا مِنْ الْأُصُولِ؛ لَكِنَّا نُشِيرُ إلَيْهَا لِتَعَلُّقِ الْقُلُوبِ بِهَا، فَنَقُولُ: مِنْ الْغَرِيبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ نَدِمَ وَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ».
قُلْنَا: عَنْ هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَدِيثُ لَيْسَ يَصِحُّ، لَكِنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَكُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سَلِمَ، لَكِنَّ النَّدَمَ لَهُ شُرُوطٌ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ بِشُرُوطِهِ قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ أَخَلَّ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يُقْبَلْ.
الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ نَدِمَ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ نَدَمُهُ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ النَّدَمُ إذَا اسْتَمَرَّ.
الثَّالِثُ: أَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْمَاضِي إنَّمَا يَنْفَعُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى أَلَّا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

فإن قيل: أليس الندم توبة، فَلِم لم يقبل منه؟ فعنه أربعة أجوبة.
أحدها: أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدَّمنا، ويكون توبة لهذه الأمة، لأنها خصّت بخصائِص لم تشارَك فيها، قاله الحسن بن الفضل.
والثاني: أنه ندم على حمله لا على قتله.
والثالث: أنه ندم إِذ لم يواره حين قتله.
والرابع: أنه ندم على فوات أخيه، لا على ركوب الذنب.
وفي هذه القصّة تحذير من الحسد، لأنه الذي أهلك قابيل. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: إذا كان الحق جل جلاله يدل العصاة من عباده إذا تحيروا على ما يزيل حيرتهم، فكيف لا يدل الطائعين إذا تحيروا على ما يزيل شبهتهم، إذا فزعوا إليه والتجأوا إلى حماه؟! فكل من وقع في حيرة دينية أو دنيوية وفزع إلى الله تعالى، مضطرًا إليه، فلا شك أن الله تعالى يجعل له فرجًا ومخرجًا من أمره، إما بواسطة أو بلا واسطة. كن صادقًا تجد مرشدًا، {فَلَوْ صَدَقُواْ اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محَمَّد: 21]. والله تعالى أعلم. اهـ.